أ. د. داود عبد الملك الحدابي
عندما نتحدث عن التكامل المعرفي اليوم بين علوم الوحي والعلوم المكتسبة بشقيها الاجتماعي والطبيعي فعلينا أن نعود إلى الوراء قليلًا. فقد كان علماء المسلمين في العصور المختلفة يدركون أهمية الانطلاق من التوحيد والإيمان والشعائر والمعاملات الإسلامية لكي يتعاملوا مع بقية العلوم والممارسات، بل كان العالِم الواحد يربط بين جميع العلوم المختلفة، فتجده يتحدث عن قضايا نفسية وإيمانية واجتماعية بنفس الوقت.
إلا أنه وبعد تحول التعليم في البلاد الإسلامية عن هذا المنحى إلى نواح مختلفة، تم تبني النظام العلماني والذي لايعكس التكامل الذي ذكرناه، بل واصل التعليم شباب الأمة في الدول المختلفة، وتعزز الفصل بين علوم الوحي والعلوم التجريبية والاجتماعية.
وفي بداية السبعينات من القرن العشرين اجتمع ثلة من علماء العلوم الاجتماعية المسلمين في أمريكا وأسسوا تجمعًا معني بما أسموه أسلمة المعرفة حتى يؤكدوا النظرة الإسلامية للمعرفة، لأن لكل فلسفة أو نظرة عالمية رؤيتها الخاصة للإنسان والكون والحياة والمعرفة، وعليه فإن وجهة النظر الإسلامية لها تصورها الخاصة للإنسان والكون والحياة والمعرفة ولابد من صبغ ذلك بصبغتها، وهذا ينطلق من مسلمة مفادها أن الله خالق كل شيء، والقرآن والسنة هما الموجهان للحياة، وتمثل الإطار العام للتوجيه. والوحي في مجمله يتحدث عن الإنسان والمجتمع أكثر من حديثه عن الظواهر الطبيعية.
وبعد تأسيس جمعية علماء العلوم الاجتماعية المسلمون أسسوا المعهد العالمي للفكر الإسلامي في عام ١٩٨١ أيضًا في الولايات المتحدة ليقوم بعمل فكري جاد مبني على أسلمة العلوم وتكاملها المعرفي.
وكان أول تطبيق لهذه الفكرة في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، والتي ترأسها ولمدة عشر سنوات أحد قادة المعهد العالمي للفكر الإسلامي الأستاذ الدكتور عبد الحميد أبو سليمان.
ووجدنا عددًا من المؤسسات والعلماء في عدد من البلدان يتحمسون لفكرة الأسلمة أو التوجيه الإسلامي للعلوم أو المنظور الإسلامي أو التأصيل، منها الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا وعدد من الجامعات السودانية وباكستان والمعهد العالمي للفكر الإسلامي وعدد كبير من العلماء في ماليزيا ومصر والسعودية والسودان وتركيا وبنجلادش وبعض دول المغرب العربي.
وقد تعددت وجهات النظر لمفهوم الأسلمة أو التأصيل أو التوجيه الإسلامي، وإن كان مفهوم التكامل المعرفي هو السائد اليوم.
وللتعرف عن قرب عن تجربة الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا فقد تعددت التجارب التي تعزز مسيرة الأسلمة أو التكامل المعرفي .
ومن صور التكامل التي تبنتها الجامعة الآتي:
- 1. تحديد عدد من المقررات الإلزامية لجميع طلبة الجامعة بغض النظر عن البرامج التي يلتحقون بها مثل الحضارة الإسلامية وفقه الحياة وغيرها من المقررات الإسلامية.
- 2. تدريس مقرر أخلاقيات المهنة بحسب التخصصات في كليات العلوم التطبيقية مثل الهندسة والطب.
- 3. تشجيع الطلبة على أخذ تخصصات رئيسية وفرعية حيث يكون أحدها إسلامي والآخر اجتماعي لتعزيز التكامل.
- 4. تدريب الأساتذة على موضوع أسلمة المعرفة أو التكامل المعرفي حتى يتمكنوا من تضمين الموضوعات الإسلامية ذات الصلة للمقررات التي يقومون بتدريسها.
- 5. تأليف الكتب الجامعية في ضوء مدخل التكامل بين علوم الوحي والعلوم المكتسبة بطريقة تتغلب على مجرد سرد آيات وأحاديث أو كتابة فصل عن البعد الإسلامي، بل تستهدف تشريب وتضمين الأبعاد الإسلامية ذات العلاقة بموضوعات كل مقرر، وتعكس المفاهيم والمبادئ المستنبطة من القرآن والسنة بمختلف موضوعات الكتاب.
- 6. إلزام الطلبة باختيار ستة مقررات مصاحبة للمنهج بعضها يعكس بعد إسلامي.
- 7. اعتماد سياسات عامة لجميع الطلبة والعاملين في الجامعة تشجع على الفضيلة وتنمية الأخلاق الإسلامية مثل توقيف المحاضرات في مواعيد الصلاة.
- 8. توفير مساكن للطلبة تتضمن برامج أخلاقية وقيادية لتعزيز فكرة التكامل في بناء الشخصية.
- 9. تشجيع الطلبة على تنفيذ العديد من الأنشطة من خلال منظماتهم داخل الجامعة.
- 10. عقد الأنشطة الدعوية والخيرية ومعسكرات العبادة للطلبة والعاملين في الجامعة.
- 11. تأسيس مركز للأسلمة بقصد متابعة تنفيذ سياسة الأسلمة للمعرفة وبناء الشخصية المسلمة وإصدار الموجهات وتنفيذ البرامج التدريبية لبناء القدرات للقيام بهذه العملية.
وحتى يتمكن العلماء من القيام بهذه المهمة وهي مهمة التكامل المعرفي فلابد من التنسيق بين جميع العاملين في المؤسسة التعليمية ومتخذي القرار بحيث يحملوا نفس الرسالة ويشتركوا في تنفيذها. والأمر الآخر أن كل فرد من هؤلاء يجب أن يكون على إيمان جازم بأهميتها وجدواها ومتحمس للقيام بها وتعزيزها في عقول وقلوب الطلبة. كما أن معرفتهم وإحاطتهم بالمعرفة العلمية في مجال التخصص، بغض النظر عن المدرسة الفلسفية للعلماء والباحثين، والعلوم الإسلامية وكتابات العلماء المسلمين ذات الصلة بمجال التخصص يمثل ركيزة أساسية لتحقيق التكامل المعرفي السليم.
وبعد هذا الاطلاع المتكامل يمكن للعلماء والباحثين أن يعيدوا هيكلية المقررات وتوصيفها بحيث تعكس التكامل بطريقة متجانسة وإبداعية تعزز رسالة الإسلام في تحقيق الرفاهية للإنسانية من خلال تحقيق المقاصد الشرعية بمستوياتها الضرورية والحاجية والتحسينية.
بهذه الطريقة نستطيع كتابة وتأليف الكتب في ضوء مدخل التكامل المعرفي وتأسيس بيئة تربوية لتنمية الشخصية المسلمة العالمية النافعة لمجتمعاتها.
#خواطر_إدارية_وتربوية